Monday, September 24, 2012

ابن بابل


يسحرنى سقوط الخط الفاصل بين الخاص والعام فى رؤيتى للفيلم العراقى "ابن بابل "، تسحرنى بغداد مدينتى التى ولدت بها ، والمدينة التى شهدت تكوينى الأول كبذرة فى رحم أمى . وتسحرنى قصة الفيلم المليئة بالوجع ، حيث رحلة أم من كردستان بشمال العراق متجهة للبحث عن ابنها الذى فقد فى الحرب منذ اثنى عشر عاما حيث تتجه الى  مدينة بابل فى الجنوب بصحبة حفيدها ،  للبحث عنه فى السجن إثر خطاب أرسله لها صديق ابنها ليخبرها عن اعتقاله ، لتكتشف أنه لم يعد مسجونا وتظل تبحث عنه طوال الفيلم فى المقابر الجماعية .

نساء متشحات بالسواد ، نائحات لنوحهن صوت عذب يخترق قلبك فيتشابك مع منطقة فى الروح فتئن من الوجع الخدر ، مقابر جماعية ، خراب يعم المكان ، تلك هى بغداد التى يصورها لنا الفيلم بعد سقوطها ، وهى الصورة التى لا تتفق مع حكايات أبى عن تلك المدينة السحرية الكريمة الأخاذة التى عرفها فى أوائل الثمانينيات .

الصورة فى الفيلم سحرية جدا ، وإيقاع الفيلم يحملك معه ويهدهدك رغم الوجع ، أداء الممثلين فى غاية التلقائية وخاصة عندما تعرف أن البطلة "الأم التى تبحث عن ابنها " سيدة أتى بها المخرج محمد الدراجى من إقليم كردستان وهى سيدة تبحث عن زوجها وأخيها المفقودين فى الحرب ولا تتحدث العربية ووافقت على القيام بالفيلم مقابل مساعدتها فى البحث عن زوجها وأخيها ، تلقائية السيدة وملامحها المعبرة منحا الفيلم مصداقية عالية .

هناك مشاهد تأخذك بشدة فى الفيلم ، مشهد المرأة وهى ترفض أخذ فلوس من السائق الذى أوصلها الى بابل ، رفضها للنقود بشموخ لا يتناسب مع مظهرها البائس الرث ، لكنه متناسب تماما مع عراق الثمانينيات التى حكى لى ابى عنها .


هناك أيضا مشاهد الصبى التى يتحول فيها  من طفل يريد أن يلعب الى رجل يحمى جدته ويساعدها ويتحمل موتها، ذلك المشهد الذى يصر أن يأخذها بنفسه الى المقابر الجماعية ويطمئنها أن أشلاء أبيه ليست موجوده ويتحدث مع الناس بالعربية التى يجيدها ويترجم لها الى الكردية ، يختلف كليا عن مشهده فى بداية الفيلم وهو يتركها ليلعب مع طفل فى عمره غير مكترث لوجعها الذى ينزف . وكأن هذه الرحلة كانت كافية لسرقه طفولته .. كل هذا الدمار والخراب الذى أحاط ببغداد حوله الى رجل فى ساعات معدودة .

الحوار رغم قلة العربية فيه إلا أنه أخاذ جدا وعميق ، ذلك المشهد الذى تخبر فيه الأم الغريب ان ابنها لم يمت ، وأن كل أم يموت بداخلها جزءا عندما تفقد ابنها . وتتحقق نبوئتها عندما تموت فى نهاية الفيلم بمعرفها بموت ابنها .

الصورة فى الفيلم حركت بداخلى الرغبة فى  رؤية بغداد التى أتصورها ، بغداد التى حلمت بها يوما ،حل العودة  الى بيتنا الأول ، وأعمدنى بمياة بالقرب منه علنى أسترد ما لا اعرفه .

بغداد التى طلبت من أبى فى آخر زيارة له أن يأتينى بطين من مكان ولادتى ، وأخذت أتلمسه برفق وأشم رائحته وأضع منه على يدى لأشعر به يربت على فى أوقاتى الصعبة ، وأتنقل به من بيت الى آخر .

ممتنة لرضوى داود التى عرفتنى على الفيلم وممتنة للمخرج محمد الدراجى صانع الفيلم الجميل  ، و ممتنة بشكل خاص للسيدة الكردية التى لن أقابلها فى حياتى مرة آخرى لكنها استطاعت أن تحملنى الى حنين كنت قد نسيه بالفعل .
 

eXTReMe Tracker