يوميات الثورة
أظن من الهام جدا أن نكتب جميعنا عن شهاداتنا عن تلك الأيام الماضية ، فبعد سنوات طوال سنجلس مع ابنائنا نحدثهم بفخر عن تلك الأيام . لم أكتب فى حينها لإستمرار إنقطاع الانترنت حتى هذا اليوم ، فالسادة البلطجية أختاروا سنترال العمرانية ليدمروه عن كامله .
اليوم الأول :28 يناير
استيقظت منذ الصباح متفائلة ومشرقه وكأننى ذاهبة إلى رحلة إنتظرتها كثيرا ، فرحت أن هذا التاريخ سيصبح له ذكرى آخرى غير الذكرى التى أحملها له .
أخذت سيارتى الصغيرة ولعة وإنطلقت إلى ش شبرا لأتركها هناك بجوار القسم – المكان الذى بدا لى وقتها آمنا ، لأتجمع مع الرفاق ، مشينا من بدايته حتى الدوران ، وإذ فجأة نجد مجموعة كبيرة من البلطجية تحاصرنا وإثر مناقشة بسيطه مع أحدنا والضابط بدأ البلطجية فى عملهم بسرعه شديدة ، حاصرونا وأخذوا إثنين منا ورفضنا ترك المكان حتى يفرجوا عن الباقى ، وبدأت فى فقد أعصابى وانتابتنى حالة هيسترية شديدة ، مما أخد أحدهم فى تهدئتى وإدعاء أنه صحفى وعندما طالبته بإثبات ذلك ، أخرج لى كارنيه نقابة الصحفيين والذى يؤكد أنه يعمل فى صحيفة الجمهورية ، لكن للأسف لم أستطع تذكر الإسم ، وبدأوا يهددوننا بالضرب ، ومع الخوف الشديد الذى بدأ ينتابنى إخترنا الرحيل ، وفى أثناء ذلك ، ومع خوفنا على زملائنا المقبوض عليهم وترحيلهم أمامنا فى سيارة ميكروباص ، وجدنا مظاهرة كبيرة جدا تخرج من ش الترعة الى ش شبرا ، فانضممنا إليهم ، فى المظاهرة كان الشعب بكل طوائفه ، لم أكن أعرف أى منهم ، بجوارى سيدة بجلباب بسيط خفت عليها وأخذت أنصحها بالحذر ، وأخذت تصرخ فى بانها احتملت كثيرا ، وأنها الآن تصفى حساباتها مع الحكومة المتمثلة فى الشرطة التى أخذت ابنها بغير وجه حق ، والبلدية التى سرقت فرشتها ، ومن لم يستطيعوا توفير فرصة عمل لأبنها الآخر .
أخذت تصرخ وتعلن رفضها للرئيس .. كلما نظرت ببصرى إلى الوراء أعجز عن تحديد حجم المظاهرة ، مشينا حتى ش رمسيس وحوصرنا هناك ، كان الكل يساعد ، أناس عاديون يحملون قطع صغيرة من البصل يوزعونها علينا ، الكل فى حالة وئام ، يحاول أحدهم أن يطلق شعار "اسلاميه " فيرد آخر " مصر لكل المصريين " فيعتذر الرجل الإخوانى ويؤكد ان مصر لكل المصريين .
مشهد بدا رائعا ودافئا ، ان تلتحم مع كل فئات الشعب وتفعل نفس الشىء فى نفس اللحظة وتختبر نفس المشاعر ،دون سابق تخطيط .
عندما اشتد علينا الحصار وبدأوا فى إطلاق القنابل المسيلة للدموع ، اختنقت صديقتى لإصابتها بضيق فى التنفس ، فانطلقنا محاولين الخروج من المكان بسرعة شديدة ، وخلال ثلاث ساعات كنا نسير فى الشوارع لنرى المظاهرات الآخرى فى الكيت كات وامبابة وش السودان ، بدا لى شعار " ثورة فى كل شوارع مصر" حقيقيا وحرفيا جدا . بدت فكرة الوصول للسيارة مرة آخرى ساذجة إثر أصوات الأعيرة النارية والإصابات فى كل مكان ، حاول صديقنا الدكتور توصيل أكبر قدر من المصابين إلى المستشفى بسيارته.
وعند حلول منتصف الليل وفى تمام الثانية عشرة ونصف خطب الرئيس فى التليفزيون وبدا خطابه ثقيلا جدا ومحبطا بشدة .
ولم يستطع أى منا الذهاب إلى بيته فى هذا اليوم ، فظللنا حتى الصباح فى بيت صديقة لنا.
اليوم الثانى : 29 يناير
تحركت فى الصباح الباكر جدا لأخذ سيارتى من ش شبرا ، وعند الوصول وجدت شخص لا أعرفه يقوم بحراستها وبدت حالتها مزرية للغاية ، كل الزجاج مكسور والسيارة من الداخل مخربة ، وبعض الأشياء مسروقة ، ووجدت الرجل يحكى لى عن البلطجية ومحاولتهم سرقة السيارة بالكامل لكن أهل الحى حاولوا حمايتها بعد أن قاموا بتكسير زجاجها ، منظر السيارة وهى محطمة وش شبرا وهو بالكامل محطم دفعنى للبكاء بشدة ، الشوارع التى أحبها والمحلات التى أشترى منها ، كل ذلك كان محبطا ومخيبا للآمال ، الشىء الوحيد الذى هدأنى هو جدعنة ذلك الرجل الذى ظل يحمى السيارة لساعات الليل وهو لا يعرف صاحبها حتى لا يكمل البلطجية على ما فيها .
ذهبت إلى البيت محبطة وفى حالة يرثى لها ، لأقلب فى التليفزيون على القنوات وأتابع المحطات والتحليلات ، وفى المساء أصاب بنوبة من الرعب المرضى من البلطجية ، بدأت أفقد أعصابى بالكامل وأشعر بالخوف الشديد جدا وأنا أتابع فى التليفزيون المصرى المتخلف أخبار السرقات التى كانت تقترب جدا من شارعنا ، أخذت مهدىء ومنوم بجرعة اكبر لأنام كنت أصلى وأطلب من الله أن ينتهى هذا اليوم بلا أذى لى أو لأحد ، كنت أريد النوم فقط وبالفعل سرعان ما غرقت فى النوم من السادسة مساء تقريبا حتى التاسعة من صباح اليوم التالى .
30يناير- 1 فبراير
بدأت أستوعب الأحداث ، وإنقطاع الإنترنت ، وإنقطاع التليفون الأرضى أيضا عندنا ، فجأة وجدتنى فى حالة يرثى لها ، بين الملل من متابعة المزيد من الأخبار ، ورفض العائلة من نزولى لأى مظاهرات وتضييق الخناق على والخوف من إصابتى بأى مكروه وخاصة بعد أن أثبت لهم أن أعصابى خفيفة ولا تحتمل أى نوع من التوتر.
مرة آخرى بدا خطاب الرئيس ساذجا وتمثيليا ومستفزا جدا ، لم أشعر معه بأى نوع من التعاطف ، واستغربت صديقتى وهى تحكى لى كيف بكت والدتها بعد خطابه .
ظللت فى المنزل وحيدة أجلس أتابع نمو زرعاتى الصغيرات ، وأتابع الأخبار وأطمئن على الرفاق فى التليفون . وأنام فى الليل مرعوبة من إقتحام البلطجية للشقة .
2-3 فبراير
أشعر بصعوبة شديدة فى الاستمرار فى البيت ، بينما الأصدقاء فى ميدان التحرير يباتون ، اقول لأمى أن على أن أذهب ، وأنزل بالفعل ، أهاتف منى سيف لأعطيها بعض الأموال التى تبرع بها أحد الرفاق .
الميدان بدا يومها مختلفا عن ذلك الذى أراه فى العادة ، مخيمات كثيرة مكتوب عليها " بنسيون الحرية " ورجال ونساء من كل نوع ، محجبات ومنقبات ، رجال بذقون وبدون ، الميدان اتسع لكل هؤلاء ، أحدهم يمر على النائمين يوقظهم ليعطى لأحدهم بسكوت أو ساندويتشات فول أو تمر .
بدا منظر مناصرى الرئيس سخيفا جدا ومستفزا ، أخذوا يهتفون " هما يمشوا " أضحكنى الشعار جدا ، بدأ الجيش يفقد السيطرة عليهم وبدأوا يتجمعون ويحاولون الدخول ، وقتها شعرت بالخطر الشديد ، ورحلت مع احد الأصدقاء عندما سمعنا أن الأنترنت قد عاد ، فذهبت معه لتسجيل ما يحدث والرد على الإدعاءات التى بدأت تنتشر حول تلك الوجبات التى توزع على المتظاهرين فى الميدان وكيف أن ذلك كله مخطط أمريكى وكثير مما قيل فى ذلك الوقت .
رحلت عن الميدان ، وبعدها بقليل سمعت عن الخيول والجمال التى غزت الميدان والبلطجية وتلك المجزرة الدامية التى راح ضحيتها الكثيرون ، ظللت أبكى وأنا أتابع الأخبار وأشعر بالعجز الشديد ، لا أدعى البطولة ولن اقول أننى أشارك دوما فى المظاهرات أو الاعتصامات . لكنى شعرت بالعجز كما لم أشعره من قبل .
إطمأننت على بعض ممن أعرف ، وعندما تابعت أمى الأخبار دعتنى إلى النزول فى اليوم التالى وقالت أن دماء هؤلاء الشهداء تدعونا للنزول ، وأخذت تتعارك مع صديقتها فى التليفون وهى تحكى لها ما سمعته على قناة المحور من أن هؤلاء الشباب فى التحرير عملاء وكيف يأكلون من كنتاكى ، أخذت أمى تصرخ فيها وتؤكد عليها أن كثير منهم من أصدقاء رضوى وأنها ذهبت اليهم اليوم بأموال تبرع بها أصدقاء آخرون ، وأنهم كانوا بلا خيمة حتى وقت قريب وينامون فى العراء .
هاتفنى صديق آخر فى المساء وظللنا قرابة الساعة نناقش جدوى الاستمرار فى التحرير ، مرتبكة أنا وعاجزة عن الفهم ، وأشعر أن عالمى اتسع فجأة ليشمل أشياء عجيبة ، الوطن لم يعد مكان آمن أخلقه دوما ، الوطن ليس كما أظن أنه وردة أزرعها وأرويها وكل تلك الأشياء الرومانسية التى أغرق فيها دوما . الوطن اتسع ليشمل دماء هؤلاء التى تسيل ، ويشمل أيضا هؤلاء الذين سرحوا من وظائفهم وليس معهم أى أموال، ويشمل أيضا الصامدون فى ميدان التحرير . شعرت بالعجز تجاه أى قرار . وانقطاع الانترنت لدى حال دون اكتشاف حقائق يغيبها الاعلام .
4 فبراير- الآن
تبدو جمعة الرحيل ثقيلة جدا منذ الصباح ، تقول لى صديقتى أنها تتمنى لو تنام وتسيتيقظ فى يوم السبت ، الخوف من المزيد من الدماء ظل يراودنى ، أذهب إلى أستاذى وزوجته فى بيتهما لأناقشهما ، أردت أن يناقشنى أحد الذين أثق فى حكمهم على الأمور. أشعر بأننى أود فعل أى شىء إيجابى عدا الوقوف فى التحرير . اظل مرتبكة ، لا أستطيع أن أقول أنهم عملاء أنا أعرف الكثير منهم ، والخوف من تواجدهم يشلنى عن إصدار حكم بأن يبقون فى الميدان حتى رحيل الرئيس .
عندما أذهب إلى العمل أتابع الانترنت فأجد الكل يخون الكل ، إما أن تكون منحازا للثورة والبقاء فى التحرير أو تكون عميلا للنظام – وإما أن تكون موقنا بعدم جدوى الجلوس فى التحرير أو تكون عميلا للغرب ولديك أجندة ما .
لا مجال للمرتبكين من أمثالى الذين لا يستطيعون أن يتخذوا موقفا واضحا . أنا لا أخون أحد ولا أشك فى نوايا احد لكنى أرى أن الوضع مربك فعلا ، بدا الميدان بالأمس كبيرا جدا وأشكال المعتصمون تغيرت ليتسع لمواطنين بسطاء جاءوا من الأقاليم ليحلمون بالحرية ويشاركون فى الثورة .. لكن كثيرا ممن صعدوا على المنصة مدعين ومن راكبى الموجة ولم أحترمهم .
أكثر ما ألهمنى بالأمس أغنية عبد الحليم" صورة " والكل يغنى فى نفس الوقت ، وقوف المسلمين أثناء القداس ، ووقوف المسيحيين أثناء صلاة المغرب والعشاء .. أظن أن ما يحدث الآن هو أقصى أحلامنا وأمنياتنا من شهر مضى .